سارعت الحكومة السودانية مؤخرًا إلى إجراء مزيد من الإصلاحات الاقتصادية من أجل رفع مستوى الأداء الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية، بالتوازي مع القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية، في 6 أكتوبر 2017، برفع العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة على السودان منذ عشرين عامًا. ومن دون شك فإن هذه الخطوة ربما تمثل نقطة تحول رئيسية في السودان، حيث ستساعد على تحسن مؤشرات النمو الاقتصادي واستقرار سوق الصرف بالإضافة إلى زيادة تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية.
ومن هنا، اتخذت الحكومة مجموعة من التدابير الإصلاحية، لكن رغم أهمية ذلك، إلا أن هذه الجهود قد تواجه صعوبات عديدة في حصد مكاسب رفع الحظر الاقتصادي على السودان، ترتبط بتعقيدات بيئة الاستثمار، وهشاشة الاستقرار السياسي، فضلاً عن إشكاليات معالجة تشوهات سوق الصرف.
توقعات متفائلة:
رفعت الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات المفروضة على السودان منذ عام 1997 في 6 أكتوبر الماضي، وهو ما أدى إلى ظهور ترجيحات باستعادة الاقتصاد السوداني نشاطه في الفترة المقبلة، خاصة مع اتجاه الحكومة نحو دعم فرص الوصول إلى تسويات للنزاعات السياسية الداخلية وتخفيف المعاناة الإنسانية في المناطق التي تشهد هذه النزاعات.
وفي هذا الصدد قالت هيذر ناورت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية: "إن رفع العقوبات إقرار بتصرفات السودان الإيجابية المتواصلة. لكن ينبغي تحقيق المزيد من التحسين". ومن دون شك، فإن هذه الخطوة سوف تمثل أساسًا جيدًا لانطلاق الاقتصاد السوداني مجددًا بعد خسائر ناجمة عن تلك العقوبات والتي وصلت، حسب بعض التقديرات السودانية، إلى نحو 500 مليار دولار.
ومن المتوقع أن يساعد رفع العقوبات في فك تجميد الأصول السودانية بالخارج، كما يعني عودة الجهاز المصرفي السوداني للاندماج مرة أخرى في النظام المصرفي العالمي، وبما سيساعد على تسهيل المعاملات المصرفية مع العالم الخارجي ومن ثم زيادة موارد النقد الأجنبي ودعم استقرار سوق الصرف السوداني مستقبلاً.
كما ستؤدي هذه الخطوة إلى تعزيز احتمالات إعادة التفاوض مع المؤسسات الدولية لتسوية ديونها المتراكمة، وتسهيل الحصول على القروض الميسرة والمنح من مختلف المانحين الدوليين، وربما تساهم أيضًا في جذب تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية في القطاعات الرئيسية الجاذبة مثل الزراعة والنفط والتعدين.
منظومة الإصلاح:
اتجهت الحكومة السودانية مؤخرًا إلى تبني حزمة من الإصلاحات بهدف معالجة العديد من التشوهات الاقتصادية التي قد تخصم من المكاسب المنتظرة من رفع العقوبات الاقتصادية، وقد تركزت خطواتها في هذا الصدد على ثلاثة محاور أساسية: يتمثل أولها، في تحسين بيئة الاستثمار، إذ اتبعت الحكومة نهجًا جديدًا للانفتاح على تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، حيث أعلنت عن نيتها إعداد قانون جديد للاستثمار سيقدم تسهيلات وحوافز جديد للمستثمرين الأجانب، وذلك بحسب ما أشار إليه وزير التجارة حاتم السر.
كما رحبت باستقبال الاستثمارات الأجنبية من الشركاء الأمريكيين والأوروبيين في وقت حلت فيه الصين على رأس قائمة المستثمرين الأجانب في البلاد خلال الفترة الماضية بقيمة استثمارات وصلت إلى 15 مليار دولار. ويبدو أن الحكومة في طور إعداد خريطة استثمارية متنوعة لا تقوم على تنمية قطاع النفط فحسب وإنما قطاع التعدين والزراعة أيضًا.
وفي هذا السياق، أعدت الحكومة مؤخرًا برنامجًا للاستثمار في 13 معدن بخلاف الذهب الذي استحوذ على اهتمام المستثمرين الأجانب في الفترة الماضية. كما من المرجح أيضًا أن تزداد تدفقات الاستثمار الأجنبي في قطاع الخدمات المالية والأدوية والمواد الكيميائية وقطاع السلع الاستهلاكية.
فيما ينصرف ثانيها، إلى معالجة تشوهات سوق الصرف، حيث أعطى البنك المركزي، عقب رفع العقوبات الاقتصادية، الحرية للبنوك في تداول الدولار الأمريكي لتخفيف نقص العملة الأجنبية، كما يمكن لها استخدام الدولار كاحتياطي قانوني وتنفيذ المعاملات التجارية في محاولة للسيطرة على سعر الصرف غير الرسمي.
وبالتوازي مع ذلك، ألزم البنك المركزي البنوك باستخدام أسعاره الاسترشادية اليومية لبيع العملات الأجنبية مقابل الدولار بدلاً من الفروقات السابقة بين البنوك وشركات الصرف في حساب سعر الصرف والناجمة عن نظام سعر الصرف المتبع في عام 2002.
ويتصل ثالثها، بإعادة تأهيل البنية التحتية، حيث تنوي الحكومة، بحسب العديد من المسئولين، تطوير الطرق والكباري والمستشفيات والمدارس وغيرها، كما تخطط لإعادة تطوير الخطوط الجوية التي عانت صعوبات فنية وتشغيلية كبيرة في السنوات الماضية بسبب العقوبات، ويدعم ذلك سماح الولايات المتحدة الأمريكية للشركة باستيراد قطع الغيار منذ إبريل 2017.
عقبات محتملة:
لكن رغم ذلك، فإن الأمر قد يستغرق بعض الوقت لتحقيق الانتعاش الاقتصادي المأمول وذلك في ضوء اعتبارين: يتمثل الأول، في تردي مناخ الاستثمار في البلاد نتيجة الفساد والتعقيدات الإدارية، وهو ما أدى إلى وصول السودان للمرتبة 170 في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي لعام 2018، بشكل سيدفع بعض المستثمرين إلى تبني مواقف حذرة إزاء الدخول للسوق.
ويرتبط الثاني، بعدم استقرار سعر الصرف، فرغم جهود البنك المركزي للحد من تشوهات سوق الصرف، إلا أن الفجوة بين السوقين الرسمي والموازي اتسعت عقب رفع العقوبات الاقتصادية، حيث شهد الجنيه السوداني، خلال الأسبوع الأول من شهر نوفمبر الجاري، تراجعًا جديدًا أمام الدولار ليصل إلى 23.5 جنيه مقابل حوالي 22 جنيهًا في الفترة الماضية، وذلك نتيجة ارتفاع الطلب على الدولار بسبب زيادة معدلات الاستيراد، وهو ما يشير إلى أن الإجراءات السابقة للبنك المركزي لا تقدم الضمانات الكافية لاستقرار سوق الصرف خاصة في ظل نقص النقد الأجنبي مع تباطؤ استرداد الأموال المجمدة بالخارج، بجانب انكماش التحويلات المالية.
ورغم توصل الحكومة لتسويات سياسية مع عدد من الجماعات المسلحة في شرق وغرب البلاد في العام الماضي، إلا أنها تظل اتفاقات مؤقتة هشة قد تثير نزاعات في المستقبل، وهو ما قد يعرقل استقبال تدفقات الاستثمار الأجنبي.
ويبدو أن هذه الصعوبات انعكست على توقعات الحكومة لمعدل النمو الاقتصادي في العام الجاري، حيث أشار وزير المالية السوداني محمد عثمان الركابي إلى أن النمو الاقتصادي سيتباطأ في العام الجاري إلى 3.5% بالمقارنة بـ4% في عام 2016، لا سيما في ظل ارتفاع معدل التضخم بالتوازي مع استمرار الحكومة في تقليص النفقات العامة.
لكن يمكن القول في النهاية، إن الاقتصاد السوداني على عتبة مرحلة انتقالية جديدة سيشهد آثارها الإيجابية على الأرجح في الأمد المتوسط والطويل، وسيدعمها استمرار الحكومة في اتخاذ مزيد من الإجراءات الاقتصادية وبما ينعكس بطبيعة الحال على استدامة النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية.